فصل: الآية رقم ‏(‏ 42 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 42 ‏)‏

‏{‏إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى‏}‏ أي أنزلنا إذ أنتم على هذه الصفة‏.‏ أو يكون المعنى‏:‏ واذكروا إذ أنتم‏.‏ والعدوة‏:‏ جانب الوادي‏.‏ وقرئ بضم العين وكسرها، فعلى الضم يكون الجمع عدى، وعلى الكسر عدى، مثل لحية ولحى، وفرية وفرى‏.‏ والدنيا‏:‏ تأنيث الأدنى‏.‏ والقصوى‏:‏ تأنيث الأقصى‏.‏ من دنا يدنو، وقصا يقصو‏.‏ ويقال‏:‏ القصيا، والأصل الواو، وهي لغة أهل الحجاز قصوى‏.‏ فالدنيا كانت مما يلي المدينة، والقصوى مما يلي مكة‏.‏ أي إذ أنتم نزول بشفير الوادي بالجانب الأدنى إلى المدينة، وعدوكم بالجانب الأقصى‏.‏ ‏}‏والركب أسفل منكم‏}‏ يعني ركب أبي سفيان وغيره‏.‏ كانوا في موضع أسفل منهم إلى ساحل البحر فيه الأمتعة‏.‏ وقيل‏:‏ هي الإبل التي كانت تحمل أمتعتهم، وكانت في موضع يأمنون عليها توفيقا من الله عز وجل لهم، فذكرهم نعمه عليهم‏.‏ ‏}‏الركب‏}‏ ابتداء ‏}‏أسفل منكم‏}‏ ظرف في موضع الخبر‏.‏ أي مكانا أسفل منكم‏.‏ وأجاز الأخفش والكسائي والفراء ‏}‏والركب أسفل منكم‏}‏ أي أشد تسفلا منكم‏.‏ والركب جمع راكب‏.‏ ولا تقول العرب‏:‏ ركب إلا للجماعة الراكبي الإبل‏.‏ وحكى ابن السكيت وأكثر أهل اللغة أنه لا يقال راكب وركب إلا للذي على الإبل، ولا يقال لمن كان على فرس أو غيرها راكب‏.‏ والركب والأركب والركبان والراكبون لا يكونون إلا على جمال، عن ابن فارس‏.‏ ‏}‏ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد‏}‏ أي لم يكن يقع الاتفاق لكثرتهم وقلتكم، فإنكم لو عرفتم كثرتهم لتأخرتم فوفق الله عز وجل لكم‏.‏ ‏}‏ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك‏}‏ من نصر المؤمنين وإظهار الدين‏.‏ واللام في ‏(‏ليقضي‏)‏ متعلقة بمحذوف‏.‏ والمعنى‏:‏ جمعهم ليقضي الله، ثم كررها فقال‏{‏يهلك‏}‏ أي جمعهم هنالك ليقضي أمرا‏.‏ ‏}‏من هلك ‏}‏‏(‏من‏)‏ في موضع رفع‏.‏ ‏(‏ويحيا‏)‏ في موضع نصب عطف على ليهلك‏.‏ والبينة إقامة الحجة والبرهان‏.‏ أي ليموت من يموت عن بينة رآها وعبرة عاينها، فقامت عليه الحجة‏.‏ وكذلك حياة من يحيا‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه وقطعت عذره، ويؤمن من آمن على ذلك‏.‏ وقرئ ‏}‏من حيي‏}‏ بياءين على الأصل‏.‏ وبياء واحدة مشددة، الأولى قراءة أهل المدينة والبزي وأبي بكر‏.‏ والثانية قراءة الباقين، وهي اختيار أبي عبيد، لأنها كذلك وقعت في المصحف‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 43 ‏:‏ 44 ‏)‏

‏{‏إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور، وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور‏}‏

قوله تعالى‏{‏إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في منامه قليلا، فقص ذلك على أصحابه، فثبتهم الله بذلك‏.‏ وقيل‏:‏ عني بالمنام محل النوم وهو العين، أي في موضع منامك، فحذف، عن الحسن‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهذا مذهب حسن، ولكن الأولى أسوغ في العربية، لأنه قد جاء ‏}‏وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم‏}‏ فدل بهذا على أن هذه رؤية الالتقاء، وأن تلك رؤية النوم‏.‏ ومعنى ‏}‏لفشلتم‏}‏ لجبنتم عن الحرب‏.‏ ‏}‏ولتنازعتم في الأمر‏}‏ اختلفتم‏.‏ ‏}‏ولكن الله سلم‏}‏ أي سلمكم من المخالفة‏.‏ ابن عباس‏:‏ من الفشل‏.‏ ويحتمل منهما‏.‏ وقيل‏:‏ سلم أي أتم أمر المسلمين بالظفر‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا‏}‏ هذا في اليقظة‏.‏ يجوز حمل الأولى على اليقظة أيضا إذا قلت‏:‏ المنام موضع النوم، وهو العين، فتكون الأولى على هذا خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه للجميع‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ قلت لإنسان كان بجانبي يوم بدر‏:‏ أتراهم سبعين‏؟‏ فقال‏:‏ هم نحو المائة‏.‏ فأسرنا رجلا فقلنا‏:‏ كم كنتم ‏؟‏ فقال‏:‏ كنا ألفا‏.‏ ‏}‏ويقللكم في أعينهم‏}‏ كان هذا في ابتداء القتال حتى قال أبو جهل في ذلك اليوم‏:‏ إنما هم أكلة جزور، خذوهم أخذا واربطوهم بالحبال‏.‏ فلما أخذوا في القتال عظم المسلمون في أعينهم فكثروا، كما قال‏{‏يرونهم مثليهم رأي العين‏}‏آل عمران‏:‏ 13‏]‏ بيانه‏.‏ ‏}‏ليقضي الله أمرا كان مفعولا‏}‏ تكرر هذا، لأن المعنى في الأول من اللقاء، وفي الثاني من قتل المشركين وإعزاز الدين، وهو إتمام النعمة على المسلمين‏.‏ ‏}‏وإلى الله ترجع الأمور‏}‏ أي مصيرها ومردها إليه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 45 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة‏}‏ أي جماعة ‏}‏فاثبتوا‏}‏ أمر بالثبات عند قتال الكفار، كما في الآية قبلها النهي عن الفرار عنهم، فالتقى الأمر والنهي على سواء‏.‏ وهذا تأكيد على الوقوف للعدو والتجلد له‏.‏

قوله تعالى‏{‏واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون‏}‏ للعلماء في هذا الذكر ثلاثة أقوال‏:‏ الأول‏:‏ اذكروا الله عند جزع قلوبكم، فإن ذكره يعين على الثبات في الشدائد‏.‏ الثاني‏:‏ اثبتوا بقلوبكم، واذكروه بألسنتكم، فإن القلب لا يسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان، فأمر بالذكر حتى يثبت القلب على اليقين، ويثبت اللسان على الذكر، ويقول ما قاله أصحاب طالوت‏{‏ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين‏}‏البقرة‏:‏ 250‏]‏‏.‏ وهذه الحالة لا تكون إلا عن قوة المعرفة، واتقاد البصيرة، وهي الشجاعة المحمودة في الناس‏.‏ الثالث‏:‏ اذكروا ما عندكم من وعد الله لكم في ابتياعه أنفسكم ومثامنته لكم‏.‏

قلت‏:‏ والأظهر أنه ذكر اللسان الموافق للجنان‏.‏ قال محمد بن كعب القرظي‏:‏ لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا، يقول الله عز وجل‏{‏ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا‏}‏آل عمران‏:‏ 41‏]‏‏.‏ ولرخص للرجل يكون في الحرب، يقول الله عز وجل‏{‏إذا لقيتم فئة فاثبوا واذكروا الله كثيرا‏}‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ افترض الله جل وعز ذكره على عباده، أشغل ما يكونون عند الضراب بالسيوف‏.‏ وحكم هذا الذكر أن يكون خفيا، لأن رفع الصوت في مواطن القتال رديء مكروه إذا كان الذاكر واحدا‏.‏ فأما إذا كان من الجميع عند الحملة فحسن، لأنه يفت في أعضاد العدو‏.‏ وروى أبو داود عن قيس بن عباد قال‏:‏ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند القتال‏.‏ وروى أبو بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يكره التلثم عند القتال‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وبهذا والله أعلم استن المرابطون بطرحه عند القتال على صيانتهم به‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 46 ‏)‏

‏{‏وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا‏}‏ هذا استمرار على الوصية لهم، والأخذ على أيديهم في اختلافهم في أم بدر وتنازعهم‏.‏ ‏}‏فتفشلوا‏}‏ نصب بالفاء في جواب النهي‏.‏ ولا يجيز سيبويه حذف الفاء والجزم وأجازه الكسائي‏.‏ وقرئ ‏}‏تفشلوا‏}‏ بكسر الشين‏.‏ وهو غير معروف‏.‏ ‏}‏وتذهب ريحكم‏}‏ أي قوتكم ونصركم، كما تقول‏:‏ الريح لفلان، إذا كان غالبا في الأمر قال الشاعر‏:‏

إذا هبت رياحك فاغتنم فإن لكل خافقة سكون

وقال قتادة وابن زيد‏:‏ إنه لم يكن نصر قط إلا بريح تهب فتضرب في وجوه الكفار‏.‏ ومنه قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور‏)‏‏.‏ قال الحكم‏{‏وتذهب ريحكم‏}‏ يعني الصبا، إذ بها نصر محمد عليه الصلاة والسلام وأمته‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ وذهبت ريح أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نازعوه يوم أحد‏.‏ ‏}‏واصبروا إن الله مع الصابرين‏}‏ أمر بالصبر، وهو محمود في كل المواطن وخاصة موطن الحرب، كما قال‏{‏إذا لقيتم فئة فاثبتوا‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 47 ‏)‏

‏{‏ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط‏}‏

يعني أبا جهل وأصحابه الخارجين يوم بدر لنصرة العير‏.‏ خرجوا بالقيان والمغنيات والمعازف، فلما وردوا الجحفة بعث خفاف الكناني - وكان صديقا لأبي جهل - بهدايا إليه مع ابن له، وقال‏:‏ إن شئت أمددتك بالرجال، وإن شئت أمددتك بنفسي مع من خف من قومي‏.‏ فقال أبو جهل‏:‏ إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد، فوالله ما لنا بالله من طاقة‏.‏ وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة، والله لا نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور، وتعزف علينا القيان، فإن بدرا موسم من مواسم العرب، وسوق من أسواقهم، حتى تسمع العرب بمخرجنا فتهابنا آخر الأبد‏.‏ فوردوا بدرا ولكن جرى ما جرى من هلاكهم‏.‏ والبطر في اللغة‏:‏ التقوية بنعم الله عز وجل وما ألبسه من العافية على المعاصي‏.‏ وهو مصدر في موضع الحال‏.‏ أي خرجوا بطرين مرائين صادين‏.‏ وصدهم إضلال الناس‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 48 ‏)‏

‏{‏وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون‏}‏ روي أن الشيطان تمثل لهم يومئذ في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وهو من بني بكر بن كنانة، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم، لأنهم قتلوا رجلا منهم‏.‏ فلما تمثل لهم قال ما أخبر الله به عنه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ جاءهم إبليس يوم بدر برايته وجنوده، وألقى في قلوبهم أنهم لن يهزموا وهم يقاتلون على دين آبائهم‏.‏ وعن ابن عباس قال‏:‏ أمد الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة من الملائكة مجنبة‏.‏ وجاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم‏.‏ فقال الشيطان للمشركين‏:‏ لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم، فلما اصطف القوم قال أبو جهل‏:‏ اللهم أولانا بالحق فأنصره‏.‏ ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال‏:‏ ‏(‏يا رب إنك تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا‏)‏‏.‏ فقال جبريل‏:‏ ‏(‏خذ قبضة من التراب‏)‏ فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه‏.‏ فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس فلما رآه كانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده ثم ولى مدبرا وشيعته، فقال له الرجل‏:‏ يا سراقة، ألم تزعم أنك لنا جار، قال‏:‏ إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون‏.‏ ذكره البيهقي وغيره‏.‏ وفي موطأ مالك عن إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيدالله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما رأى الشيطان نفسه يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر‏)‏ قيل‏:‏ وما رأى يوم بدر يا رسول الله‏؟‏ قال ‏(‏أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة‏)‏‏.‏ ومعنى نكص‏:‏ رجع بلغة سليم، عن مؤرج وغيره‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

ليس النكوص على الأدبار مكرمة إن المكارم إقدام على الأسل

وقال آخر‏:‏

وما ينفع المستأخرين نكوصهم ولا ضر أهل السابقات التقدم

وليس ههنا قهقرى بل هو فرار، كما قال‏:‏ ‏(‏إذا سمع الأذان أدبر وله ضراط‏)‏‏.‏ ‏}‏إني أخاف الله‏}‏ قيل‏:‏ خاف إبليس أن يكون يوم بدر اليوم الذي أنظر إليه‏.‏ وقيل‏:‏ كذب إبليس في قوله‏{‏إني أخاف الله‏}‏ ولكن علم أنه لا قوة له‏.‏ ويجمع جار على أجوار وجيران، وفي القليل جيرة‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 49 ‏)‏

‏{‏إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم‏}‏

قيل‏:‏ المنافقون‏:‏ الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر‏.‏ والذين في قلوبهم مرض‏:‏ الشاكون، وهم دون المنافقين، لأنهم حديثو عهد بالإسلام، وفيهم بعض ضعف نية‏.‏ قالوا عند الخروج إلى القتال وعند التقاء الصفين‏:‏ غر هؤلاء دينهم‏.‏ وقيل‏:‏ هما واحد، وهو أولى‏.‏ ألا ترى إلى قوله عز وجل‏{‏الذين يؤمنون بالغيب‏}‏البقرة‏:‏ 3‏]‏ ثم قال ‏}‏والذين يؤمنون بما أنزل إليك‏}‏البقرة‏:‏ 4‏]‏ وهما لواحد‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 50 ‏:‏ 51 ‏)‏

‏{‏ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق، ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد‏}‏

قيل‏:‏ أراد من بقي ولم يقتل يوم بدر‏.‏ وقيل‏:‏ هي فيمن قتل ببدر‏.‏ وجواب ‏}‏لو‏}‏ محذوف، تقديره‏:‏ لرأيت أمرا عظيما‏.‏ ‏}‏يضربون‏}‏ في موضع الحال‏.‏ ‏}‏وجوههم وأدبارهم‏}‏ أي أستاههم، كنى عنها بالأدبار، قاله مجاهد وسعيد بن جبير‏.‏ الحسن‏:‏ ظهورهم، وقال‏:‏ إن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا رسول الله، إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ذلك ضرب الملائكة‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ هذا الضرب يكون عند الموت‏.‏ وقد يكون يوم القيامة حين يصيرون بهم إلى النار‏.‏ ‏}‏وذوقوا عذاب الحريق‏}‏ قال الفراء‏:‏ المعنى ويقولون ذوقوا، فحذف‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هذا يوم القيامة، تقول لهم خزنة جهنم‏:‏ ذوقوا عذاب الحريق‏.‏ وروي أن في بعض التفاسير أنه كان مع الملائكة مقامع من حديد، كلما ضربوا التهبت النار في الجراحات، فذلك قوله‏{‏وذوقوا عذاب الحريق‏}‏‏.‏ والذوق يكون محسوسا ومعنى‏.‏ وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار، تقول‏:‏ اركب هذا الفرس فذقه‏.‏ وأنظر فلانا فذق ما عنده‏.‏ قال الشماخ يصف فرسا‏:‏

فذاق فأعطته من اللين جانبا كفى ولها أن يغرق السهم حاجز

وأصله من الذوق بالفم‏.‏ ‏}‏ذلك‏}‏ في موضع رفع؛ أي الأمر ذلك‏.‏ أو ‏}‏ذلك‏}‏ جزاؤكم‏.‏ ‏}‏بما قدمت أيديكم‏}‏ أي اكتسبتم من الآثام‏.‏ ‏}‏وأن الله ليس بظلام للعبيد‏}‏ إذ قد أوضح السبيل وبعث الرسل، فلم خالفتم‏؟‏‏.‏ ‏}‏وأن‏}‏ في موضع خفض عطف على ‏}‏ما‏}‏ وإن شئت نصبت، بمعنى وبأن، وحذفت الباء‏.‏ أو بمعنى‏:‏ وذلك أن الله‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع رفع نسقا على ذلك‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 52 ‏)‏

‏{‏كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب‏}‏

الدأب العادة‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏آل عمران‏}‏‏.‏ أي العادة في تعذيبهم عند قبض الأرواح وفي القبور كعادة آل فرعون‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى جوزي هؤلاء بالقتل والسبي كما جوزي آل فرعون بالغرق‏.‏ أي دأبهم كدأب آل فرعون‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 53 ‏)‏

‏{‏ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم‏}‏

تعليل‏.‏ أي هذا العقاب، لأنهم غيروا وبدلوا، ونعمة الله على قريش الخصب والسعة، والأمن والعافية‏.‏ ‏}‏أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم‏}‏العنكبوت‏:‏67‏]‏ الآية‏.‏ وقال السدي‏:‏ نعمة الله عليهم محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به، فنقل إلى المدينة وحل بالمشركين العقاب‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 54 ‏)‏

‏{‏كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين‏}‏

ليس هذا بتكرير، لأن الأول للعادة في التكذيب، والثاني للعادة في التغيير، وباقي الآية بين‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 55 ‏:‏ 56 ‏)‏

‏{‏إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون، الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن شر الدواب عند الله‏}‏ أي من يدب على وجه الأرض في علم الله وحكمه‏.‏

قوله تعالى‏{‏الذين كفروا فهم لا يؤمنون‏}‏ نظيره ‏}‏الصم البكم الذين لا يعقلون‏}‏الأنفال‏:‏ 22‏]‏‏.‏ ثم وصفهم فقال‏{‏الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون‏}‏ أي لا يخافون الانتقال‏.‏ ‏}‏ومن‏}‏ في قوله ‏}‏منهم‏}‏ للتبعيض، لأن العهد إنما يجري مع أشرافهم ثم ينقصونه‏.‏ والمعني بهم قريظة والنضير، في قول مجاهد وغيره‏.‏ نقضوا العهد فأعانوا مشركي مكة بالسلاح، ثم اعتذروا فقالوا‏:‏ نسينا، فعاهدهم عليه السلام ثانية فنقضوا يوم الخندق‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 57 ‏)‏

‏{‏فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فإما تثقفنهم في الحرب‏}‏ شرط وجوابه‏.‏ ودخلت النون توكيدا لما دخلت ما، هذا قول البصريين‏.‏ وقال الكوفيون‏:‏ تدخل النون الثقيلة والخفيفة مع ‏}‏إما‏}‏ في المجازاة للفرق بين المجازاة والتخيير‏.‏ ومعنى ‏}‏تثقفنهم‏}‏ تأسرهم وتجعلهم في ثقاف، أو تلقاهم بحال ضعف، تقدر عليهم فيها وتغلبهم‏.‏ وهذا لازم من اللفظ؛ لقول‏{‏في الحرب‏}‏‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ تصادفنهم وتلقاهم‏.‏ يقال‏:‏ ثقفته أثقفه ثقفا، أي وجدته‏.‏ وفلان ثقف لقف أي سريع الوجود لما يحاوله ويطلبه‏.‏ وثقف لقف‏.‏ وامرأة ثقاف‏.‏ والقول الأول أولى؛ لارتباطه بالآية كما بينا‏.‏ والمصادف قد يغلب فيمكن التشريد به، وقد لا يغلب‏.‏ والثقاف في اللغة‏:‏ ما يشد به القناة ونحوها‏.‏ ومنه قول النابغة‏:‏

تدعو قعينا وقد عض الحديد بها عض الثقاف على صم الأنابيب

قوله تعالى‏{‏فشرد بهم من خلفهم‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ المعنى أنذر بهم من خلفهم‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ هي لغة قريش، شرد بهم سمع بهم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ نكل بهم‏.‏ الزجاج‏:‏ افعل بهم فعلا من القتل تفرق به من خلفهم‏.‏ والتشريد في اللغة‏:‏ التبديد والتفريق، يقال‏:‏ شردت بني فلان قلعتهم عن مواضعهم وطردتهم عنها حتى فارقوها‏.‏ وكذلك الواحد، تقول‏:‏ تركته شريدا عن وطنه وأهله‏.‏ قال الشاعر من هذيل‏:‏

أطوف في الأباطح كل يوم مخافة أن يشرد بي حكيم

ومنه شرد البعير والدابة إذا فارق صاحبه‏.‏ و‏}‏من‏}‏ بمعنى الذي، قال الكسائي‏.‏ وروي عن ابن مسعود ‏}‏فشرذ‏}‏ بالذال المعجمة، وهما لغتان‏.‏ وقال قطرب‏:‏ التشريذ ‏(‏بالذال المعجمة‏)‏ التنكيل‏.‏ وبالدال المهملة التفريق، حكاه الثعلبي‏.‏ وقال المهدوي‏:‏ الذال لا وجه لها، إلا أن تكون بدلا من الدال المهملة لتقاربهما، ولا يعرف في اللغة ‏}‏فشرذ‏}‏‏.‏ وقرئ ‏}‏من خلفهم‏}‏ بكسر الميم والفاء‏.‏ ‏}‏لعلهم يذكرون‏}‏ أي يتذكرون بوعدك إياهم‏.‏ وقيل‏:‏ هذا يرجع إلى من خلفهم، لأن من قتل لا يتذكر أي شرد بهم من خلفهم من عمل بمثل عملهم‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 58 ‏)‏

‏{‏وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإما تخافن من قوم خيانة‏}‏ أي غشا ونقضا للعهد‏.‏ ‏}‏فانبذ إليهم على سواء‏}‏ وهذه الآية نزلت في بني قريظة وبني النضير‏.‏ وحكاه الطبري عن مجاهد‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والذي يظهر في ألفاظ القرآن أن أم بني قريظة انقضى عند قول ‏}‏فشرد بهم من خلفهم‏}‏ ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية بأمره فيما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة، فتترتب فيهم هذه الآية‏.‏ وبنو قريظة لم يكونوا في حد من تخاف خيانته، وإنما كانت خيانتهم ظاهرة مشهورة‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ فإن قيل كيف يجوز نقض العهد مع خوف الخيانة، والخوف ظن لا يقين معه، فكيف يسقط يقين العهد مع ظن الخيانة‏.‏ فالجواب من وجهين‏:‏ أحدهما - أن الخوف قد يأتي بمعنى اليقين، كما قد يأتي الرجاء بمعنى العلم، قال الله تعالى‏{‏ما لكم لا ترجون لله وقارا‏}‏نوح‏:‏ 13‏]‏‏.‏ الثاني - إذا ظهرت آثار الخيانة وثبتت دلائلها، وجب نبذ العهد لئلا يوقع التمادي عليه في الهلكة، وجاز إسقاط اليقين هنا ضرورة‏.‏ وأما إذا علم اليقين فيستغنى عن نبذ العهد إليهم، وقد سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة عام الفتح، لما إذا اشتهر منهم نقض العهد من غير أن ينبذ إليهم عهدهم‏.‏ والنبذ‏:‏ الرمي والرفض‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ معناه إذا عاهدت قوما فعلمت منهم النقض بالعهد فلا توقع بهم سابقا إلى النقض حتى تلقي إليهم أنك قد نقضت العهد والمواعدة، فيكونوا في علم النقض مستويين، ثم أوقع بهم‏.‏ قال النحاس‏:‏ هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه‏.‏ والمعنى‏:‏ وإما تخافن من قوم بينك وبينهم عهد خيانة فأنبذ إليهم العهد، أي قل لهم قد نبذت إليكم عهدكم، وأنا مقاتلكم، ليعلموا ذلك فيكونوا معك في العلم سواء، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد وهم يثقون بك، فيكون ذلك خيانة وغدرا‏.‏ ثم بين هذا بقوله‏{‏إن الله لا يحب الخائنين‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ ما ذكره الأزهري والنحاس من إنباذ العهد مع العلم بنقضه يرده فعل النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، فإنهم لما نقضوا لم يوجه إليهم بل قال‏:‏ ‏(‏اللهم اقطع خبري عنهم‏)‏ وغزاهم‏.‏ وهو أيضا معنى الآية، لأن في قطع العهد منهم ونكثه مع العلم به حصول نقض عهدهم والاستواء معهم‏.‏ فأما مع غير العلم بنقض العهد منهم فلا يحل ولا يجوز‏.‏ روى الترمذي وأبو داود عن سليم بن عامر قال‏:‏ كان بين معاوية والروم عهد وكان يسير نحو بلادهم ليقرب حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاءه رجل على فرس أو برذون وهو يقول‏:‏ الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا فإذا هو عمرو بن عنبسة، فأرسل إليه معاوية فسأل فقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء‏)‏ فرجع معاوية بالناس‏.‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ والسواء‏:‏ المساواة والاعتدال‏.‏ وقال الراجز

فاضرب وجوه الغدر الأعداء حتى يجيبوك إلى السواء

وقال الكسائي‏:‏ السواء العدل‏.‏ وقد يكون بمعنى الوسط، ومنه قوله تعالى‏{‏في سواء الجحيم‏}‏الصافات‏:‏ 55‏]‏‏.‏ ومنه قول حسان‏:‏

يا ويح أصحاب النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد

الفراء‏:‏ ويقال ‏}‏فانبذ إليهم على سواء‏}‏ جهرا لا سرا‏.‏

روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة‏)‏‏.‏ قال علماؤنا رحمة الله عليهم‏:‏ إنما كان الغدر في حق الإمام أعظم وأفحش منه في غيره لما في ذلك من المفسدة، فإنما إذا غدروا وعلم ذلك منهم ولم ينبذوا بالعهد لم يأمنهم العدو على عهد ولا صلح، فتشتد شوكته ويعظم ضرره، ويكون ذلك منفرا عن الدخول في الدين، وموجبا لذم أئمة المسلمين‏.‏ فأما إذا لم يكن للعدو عهد فينبغي أن يتحيل عليه بكل حيلة، وتدار عليه كل خديعة‏.‏ وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الحرب خدعة‏)‏‏.‏ وقد اختلف العلماء هل يجاهد مع الإمام الغادر، على قولين‏.‏ فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقاتل معه، بخلاف الخائن والفاسق‏.‏ وذهب بعضهم إلى الجهاد معه‏.‏ والقولان في مذهبنا‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 59 ‏)‏

‏{‏ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا يحسبن الذين كفروا‏}‏ أي من أفلت من وقعة بدر سبق إلى الحياة‏.‏ ثم استأنف فقال‏{‏إنهم لا يعجزون‏}‏ أي في الدنيا حتى يظفرك الله بهم‏.‏ وقيل‏:‏ يعني في الآخرة‏.‏ وهو قول الحسن‏.‏ وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة ‏}‏يحسبن‏}‏ بالياء والباقون بالتاء، على أن يكون في الفعل ضمير الفاعل‏.‏ و‏}‏الذين كفروا‏}‏ مفعول أول‏.‏ و‏}‏سبقوا‏}‏ مفعول ثان‏.‏ وأما قراءة الياء فزعم جماعة من النحويين منهم أبو حاتم أن هذا لحن لا تحل القراءة به، ولا تسمع لمن عرف الإعراب أو عرفه‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ لأنه لم يأت لـ ‏}‏يحسبن‏}‏ بمفعول وهو يحتاج إلى مفعولين‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا تحامل شديد، والقراءة تجوز ويكون المعنى‏:‏ ولا يحسبن من خلفهم الذين كفروا سبقوا، فيكون الضمير يعود على ما تقدم، إلا أن القراءة بالتاء أبين‏.‏ المهدوي‏:‏ ومن قرأ بالياء احتمل أن يكون في الفعل ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون ‏}‏الذين كفروا سبقوا‏}‏ المفعولين‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏الذين كفروا‏}‏ فاعلا، والمفعول الأول محذوف، المعنى‏:‏ ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا‏.‏ مكي‏:‏ ويجوز أن يضمر مع سبقوا أن، فيسد مسد المفعولين والتقدير‏:‏ ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا، فهو مثل ‏}‏أحسب الناس أن يتركوا‏}‏العنكبوت‏:‏ 2‏]‏ في سد أن مسد المفعولين‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏}‏أنهم لا يعجزون‏}‏ بفتح الهمزة‏.‏ واستبعد هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ وإنما يجوز على أن يكون المعنى‏:‏ ولا تحسبن الذين كفروا أنهم لا يعجزون‏.‏ قال النحاس‏:‏ الذي ذكره أبو عبيد لا يجوز عند النحويين البصريين، لا يجوز حسبت زيدا أنه خارج، إلا بكسر الألف، وإنما لم يجز لأنه في موضع المبتدأ، كما تقول‏:‏ حسبت زيدا أبوه خارج، ولو فتحت لصار المعنى حسبت زيدا خروجه‏.‏ وهذا محال، وفيه أيضا من البعد أنه لا وجه لما قال يصح به معنى، إلا أن يجعل ‏}‏لا‏}‏ زائدة، ولا وجه لتوجيه حرف في كتاب الله عز وجل إلى التطول بغير حجة يجب التسليم لها‏.‏ والقراءة جيدة على أن يكون المعنى‏:‏ لأنهم لا يعجزون‏.‏ مكي‏:‏ فالمعنى لا يحسبن الكفار أنفسهم فأتوا لأنهم لا يعجزون، أي لا يفوتون‏.‏ فـ ‏}‏أن‏}‏ في موضع نصب بحذف اللام، أو في موضع خفض على إعمال اللام لكثرة حذفها مع ‏}‏أن‏}‏، وهو يروى عن الخليل والكسائي‏.‏ وقرأ الباقون بكسر ‏}‏إن‏}‏ على الاستئناف والقطع مما قبله، وهو الاختيار، لما فيه من معنى التأكيد، ولأن الجماعة عليه‏.‏ وروي عن ابن محيصن أنه قرأ ‏}‏لا يعجزون‏}‏ بالتشديد وكسر النون‏.‏ النحاس‏:‏ وهذا خطأ من وجهين‏:‏ أحدهما أن معنى عجزه ضعفه وضعف أمره‏.‏ والآخر - أنه كان يجب أن يكون بنونين‏.‏ ومعنى أعجزه سبقه وفاته حتى لم يقدر عليه‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 60 ‏)‏

‏{‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأعدوا لهم‏}‏ أمر الله سبحانه المؤمنين بإعداد القوة للأعداء بعد أن أكد تقدمة التقوى‏.‏ فإن الله سبحانه لو شاء لهزمهم بالكلام والتفل في وجوههم وبحفنة من تراب، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولكنه أراد أن يبتلي بعض الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه النافذ‏.‏ وكلما تعده لصديقك من خير أو لعدوك من شر فهو داخل في عدتك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ القوة ههنا السلاح والقسي‏.‏ وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول‏:‏ ‏(‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي‏)‏‏.‏ وهذا نص رواه عن عقبة أبو علي ثمامة بن شفي الهمداني، وليس له في الصحيح غيره‏.‏ وحديث آخر في الرمي عن عقبة أيضا قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه‏)‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنه من الحق‏)‏‏.‏ ومعنى هذا والله أعلم‏:‏ أن كل ما يتلهى به الرجل مما لا يفيده في العاجل ولا في الآجل فائدة فهو باطل، والإعراض عنه أولى‏.‏ وهذه الأمور الثلاثة فإنه وإن كان يفعلها على أنه يتلهى بها وينشط، فإنها حق لاتصالها بما قد يفيد، فإن الرمي بالقوس وتأديب الفرس جميعا من معاون القتال‏.‏ وملاعبة الأهل قد تؤدي إلى ما يكون عنه ولد يوحد الله ويعبده، فلهذا كانت هذه الثلاثة من الحق‏.‏ وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يدخل ثلاثة نفر الجنة بسهم واحد صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي ومبله‏)‏‏.‏ وفضل الرمي عظيم ومنفعته عظيمة للمسلمين، ونكايته شديدة على الكافرين‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا بني إسماعيل ارموا فإن أباكم كان راميا‏)‏‏.‏ وتعلم الفروسية واستعمال الأسلحة فرض كفاية‏.‏ وقد يتعين‏.‏ ‏}‏ومن رباط الخيل‏}‏ وقرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة ‏}‏ومن ربط الخيل‏}‏ بضم الراء والباء، جمع رباط، ككتاب وكتب قال أبو حاتم عن ابن زيد‏:‏ الرباط من الخيل الخمس فما فوقها، وجماعته ربط‏.‏ وهي التي ترتبط، يقال منه‏:‏ ربط يربط ربطا‏.‏ وارتبط يرتبط ارتباطا‏.‏ ومربط الخيل ومرابطها وهي ارتباطها بإزاء العدو‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أمر الإله بربطها لعدوه في الحرب إن الله خير موفق

وقال مكحول بن عبدالله‏:‏

تلوم على ربط الجياد وحبسها وأوصى بها الله النبي محمدا

ورباط الخيل فضل عظيم ومنزلة شريفة‏.‏ وكان لعروة البارقي سبعون فرسا معدة للجهاد‏.‏ والمستحب منها الإناث، قال عكرمة وجماعة‏.‏ وهو صحيح، فإن الأنثى بطنها كنز وظهرها عز‏.‏ وفرس جبريل كان أنثى‏.‏ وروى الأئمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الخيل ثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر ولرجل وزر‏)‏ الحديث‏.‏ ولم يخص ذكرا من أنثى‏.‏ وأجودها أعظمها أجرا وأكثرها نفعا‏.‏ وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي الرقاب أفضل‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها‏)‏‏.‏ وروى النسائي عن أبي وهب الجشمي - وكانت له صحبة - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عز وجل عبدالله وعبدالرحمن وارتبطوا الخيل وامسحوا بنواصيها وأكفالها وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار وعليكم بكل كميت أغر محجل أو أشقر أغر محجل أو أدهم أغر محجل‏)‏‏.‏ وروى الترمذي عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏خير الخيل الأدهم الأقرح الأرثم ثم الأقرح المحجل طلق اليمين فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الشية‏)‏‏.‏ ورواه الدارمي عن أبي قتادة أيضا، أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله، إني أريد أن أشتري فرسا، فأيها أشتري‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏اشتر أدهم أرثم محجلا طلق اليد اليمنى أو من الكميت على هذه الشية تغنم وتسلم‏)‏‏.‏ وكان صلى الله عليه وسلم يكره الشكال من الخيل‏.‏ والشكال‏:‏ أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض وفي يده اليسرى، أو في يده اليمنى ورجله اليسرى‏.‏ خرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه‏.‏ ويذكر أن الفرس الذي قتل عليه الحسين بن علي رضي الله عنهما كان أشكل‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن قوله ‏}‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة‏}‏ كان يكفي، فلم خص الرمي والخيل بالذكر‏؟‏ قيل له‏:‏ إن الخيل لما كانت أصل الحروب وأوزارها التي عقد الخير في نواصيها، وهي أقوى القوة وأشد العدة وحصون الفرسان، وبها يجال في الميدان، خصها بالذكر تشريفا، وأقسم بغبارها تكريما‏.‏ فقال‏{‏والعاديات ضبحا‏}‏العاديات‏:‏ 1‏]‏ الآية‏.‏ ولما كانت السهام من أنجع ما يتعاطى في الحروب والنكاية في العدو وأقربها تناولا للأرواح، خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر لها والتنبيه عليها‏.‏ ونظير هذا في التنزيل، ‏}‏وجبريل وميكال‏}‏البقرة‏:‏ 98‏]‏ ومثله كثير‏.‏

وقد استدل بعض علمائنا بهذه الآية على جواز وقف الخيل والسلاح، واتخاذ الخزائن والخزان لها عدة للأعداء‏.‏ وقد اختلف العلماء في جواز وقف الحيوان كالخيل والإبل على قولين‏:‏ المنع، وبه قال أبو حنيفة‏.‏ والصحة، وبه قال الشافعي رضي الله عنه‏.‏ وهو أصح، لهذه الآية، ولحديث ابن عمر في الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله وقوله عليه السلام في حق خالد‏:‏ ‏(‏وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا فإنه قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله‏)‏ الحديث‏.‏ وما روي أن امرأة جعلت بعيرا في سبيل الله، فأراد زوجها الحج، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ادفعيه إليه ليحج عليه فإن الحج من سبيل الله‏)‏‏.‏ ولأنه مال ينتفع به في وجه قربة، فجاز أن يوقف كالرباع‏.‏ وقد ذكر السهيلي في هذه الآية تسمية خيل النبي صلى الإله عليه وسلم، وآلة حربه‏.‏ من أرادها وجدها في كتاب الأعلام‏.‏

قوله تعالى‏{‏ترهبون به عدو الله وعدوكم‏}‏ يعني تخيفون به عدو الله وعدوكم من اليهود وقريش وكفار العرب‏.‏ ‏}‏وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم‏}‏ يعني فارس والروم، قاله السدي‏.‏ وقيل‏:‏ الجن‏.‏ وهو اختيار الطبري‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بذلك كل من لا تعرف عداوته‏.‏ قال السهيلي‏:‏ قيل لهم قريظة‏.‏ وقيل‏:‏ هم من الجن‏.‏ وقيل غير ذلك‏.‏ ولا ينبغي أن يقال فيهم شيء، لأن الله سبحانه قال‏{‏وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم‏}‏، فكيف يدعي أحد علما بهم، إلا أن يصح حديث جاء في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله في هذه الآية‏:‏ ‏(‏هم الجن‏)‏‏.‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الشيطان لا يخبل أحدا في دار فيها فرس عتيق‏)‏ وإنما سمي عتيقا لأنه قد تخلص من الهجانة‏.‏ وهذا الحديث أسنده الحارث بن أبي أسامة عن ابن المليكي عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وروي‏:‏ أن الجن لا تقرب دارا فيها فرس، وأنها تنفر من صهيل الخيل‏.‏ ‏}‏وما تنفقوا من شيء‏}‏ أي تتصدقوا‏.‏ وقيل‏:‏ تنفقوه على أنفسكم أو خيلكم‏.‏ ‏}‏في سبيل الله يوف إليكم‏}‏ في الآخرة، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة‏.‏ ‏}‏وأنتم لا تظلمون‏}‏‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 61 ‏)‏

‏{‏وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن جنحوا للسلم فاجنح لها‏}‏ إنما قال ‏}‏لها‏}‏ لأن السلم مؤنثة‏.‏ ويجوز أن يكون التأنيث للفعلة‏.‏ والجنوح الميل‏.‏ يقول‏:‏ إن مالوا - يعني الذين نبذ إليهم عهدهم - إلى المسالمة، أي الصلح، فمل إليها‏.‏ وجنح الرجل إلى الآخر‏:‏ مال إليه، ومنه قيل للأضلاع جوانح، لأنها مالت على الحشوة‏.‏ وجنحت الإبل‏:‏ إذا مالت أعناقها في السير‏.‏ وقال ذو الرمة‏:‏

إذا مات فوق الرحل أحييت روحه بذكراك والعيس المراسيل جنح

وقال النابغة‏:‏

جوانح قد أيقن أن قبيله إذا ما التقى الجمعان أول غالب

يعني الطير‏.‏ وجنح الليل إذا أقبل وأمال أطنابه على الأرض‏.‏ والسلم والسلام هو الصلح‏.‏ وقرأ الأعمش وأبو بكر وابن محيصن والمفضل ‏}‏للسلم‏}‏ بكسر السين‏.‏ الباقون بالفتح‏.‏ وقد تقدم معنى ذلك في ‏}‏البقرة‏}‏ مستوفى‏.‏ وقد يكون السلام من التسليم‏.‏ وقرأ الجمهور ‏}‏فاجنح‏}‏ بفتح النون، وهي لغة تميم‏.‏ وقرأ الأشهب العقيلي ‏}‏فاجنح‏}‏ بضم النون، وهي لغة قيس‏.‏ قال ابن جني‏:‏ وهذه اللغة هي القياس‏.‏

وقد اختلف في هذه الآية، هل هي منسوخة أم لا‏.‏ فقال قتادة وعكرمة‏:‏ نسخها ‏}‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموه‏}‏التوبة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ ‏}‏وقاتلوا المشركين كافة‏}‏التوبة‏:‏ 36‏]‏ وقالا‏:‏ نسخت براءة كل موادعة، حتى يقولوا لا إله إلا الله‏.‏ ابن عباس‏:‏ الناسخ لها ‏}‏فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم‏}‏محمد‏:‏ 35‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ ليست بمنسوخة، بل أراد قبول الجزية من أهل الجزية‏.‏ وقد صالح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة كثيرا من بلاد العجم، على ما أخذوه منهم، وتركوهم على ما هم فيه، وهم قادرون على استئصالهم‏.‏ وكذلك صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا من أهل البلاد على مال يؤدونه، من ذلك خيبر، رد أهلها إليها بعد الغلبة على أن يعملوا ويؤدوا النصف‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ قال مجاهد عنى بهذه الآية قريظة، لأن الجزية تقبل منهم، فأما المشركون فلا يقبل منهم شيء‏.‏ وقال السدي وابن زيد‏.‏‏:‏ معنى الآية إن دعوك إلى الصلح فأجبهم‏.‏ ولا نسخ فيها‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وبهذا يختلف الجواب عنه، وقد قال الله عز وجل‏{‏فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم‏}‏محمد‏:‏ 35‏]‏‏.‏ فإذا كان المسلمون على عزة وقوة ومنعة، وجماعة عديدة، وشدة شديدة فلا صلح، كما قال‏:‏

فلا صلح حتى تطعن الخيل بالقنا وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم

وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح، لنفع يجتلبونه، أو ضرر يدفعونه، فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه‏.‏ وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم‏.‏ وقد صالح الضمري وأكيدر دومة وأهل نجران، وقد هادن قريشا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده‏.‏ وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي شرعناها سالكة، وبالوجوه التي شرحناها عاملة‏.‏ قال القشيري‏:‏ إذا كانت القوة للمسلمين فينبغي ألا تبلغ الهدنة سنة‏.‏ وإذا كانت القوة للكفار جاز مهادنتهم عشر سنين، ولا تجوز الزيادة‏.‏ وقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عشر سنين‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ اختلف العلماء في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وبين أهل مكة عام الحديبية، فقال عروة‏:‏ كانت أربع سنين‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ كانت ثلاث سنين‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ كانت عشر سنين‏.‏ وقال الشافعي رحمه الله‏:‏ لا تجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين، على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهي منتقضة، لأن الأصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية‏.‏ وقال ابن حبيب عن مالك رضي الله عنه‏:‏ تجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث، وإلى غير مدة‏.‏ قال المهلب‏:‏ إنما قاضاهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضية التي ظاهرها الوهن على المسلمين، لسبب حبس الله ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة، حين توجه إليها فبركت‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏حبسها حابس الفيل‏)‏‏.‏ على ما خرجه البخاري من حديث المسور بن مخرمة‏.‏ ودل على جواز صلح المشركين ومهادنتهم دون مال يؤخذ منهم، إذا رأى ذلك الإمام وجها‏.‏ ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو، لموادعة النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري، والحارث بن عوف المري يوم الأحزاب، على أن يعطيهما ثلث ثمر المدينة، وينصرفا بمن معهما من غطفان ويخذلا قريشا، ويرجعا بقومهما عنهم‏.‏ وكانت هذه المقالة مراوضة ولم تكن عقدا‏.‏ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضيا استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقالا‏:‏ يا رسول الله، هذا أمر تحبه فنصنعه لك، أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع، أو أمر تصنعه لنا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏بل أمر أصنعه لكم فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة‏)‏، فقال له سعد بن معاذ‏:‏ يا رسول الله، والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة، إلا شراء أو قرى، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا‏!‏ والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم‏.‏ فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏أنتم وذاك‏)‏‏.‏ وقال لعيينة والحارث‏:‏ ‏(‏انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف‏)‏‏.‏ وتناول سعد الصحيفة، وليس فيها شهادة أن لا إله إلا الله فمحاها‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 62 ‏:‏ 63 ‏)‏

‏{‏وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين، وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن يريدوا أن يخدعوك‏}‏ أي بأن يظهروا لك السلم، ويبطنوا الغدر والخيانة، فاجنح فما عليك من نياتهم الفاسدة‏.‏ ‏}‏فإن حسبك الله‏}‏ كافيك الله، أي يتولى كفايتك وحياطتك‏.‏ قال الشاعر‏:‏

إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند

أي كافيك وكافي الضحاك سيف‏.‏

قوله تعالى‏{‏هو الذي أيدك بنصره‏}‏ أي قواك بنصره‏.‏ يريد يوم بدر‏.‏ ‏}‏وبالمؤمنين‏}‏ قال النعمان بن بشير‏:‏ نزلت في الأنصار‏.‏ ‏}‏وألف بين قلوبهم‏}‏ أي جمع بين قلوب الأوس والخزرج‏.‏ وكان تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، لأن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عنها حتى يستقيدها‏.‏ وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين‏.‏ وقيل‏:‏ أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار‏.‏ والمعنى متقارب‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 64 ‏)‏

‏{‏يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين‏}‏

ليس هذا تكريرا، فإنه قال فيما سبق‏{‏وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله‏}‏ وهذه كفاية خاصة‏.‏ وفي قوله‏{‏يا أيها النبي حسبك الله‏}‏ أراد التعميم، أي حسبك الله في كل حال وقال ابن عباس‏:‏ نزلت في إسلام عمر فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أسلم معه ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة، فأسلم عمر وصاروا أربعين‏.‏ والآية مكية، كتبت بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة مدنية، ذكره القشيري‏.‏

قلت‏:‏ ما ذكره من إسلام عمر رضي الله عنه عن ابن عباس، فقد وقع في السيرة خلافه‏.‏ عن عبدالله بن مسعود قال‏:‏ ‏(‏ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه‏.‏ وكان إسلام عمر بعه خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة‏.‏‏)‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا أو ولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلا، إن كان عمار بن ياسر منهم‏.‏ وهو يشك فيه‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ نزلت الآية بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن اتبعك من المؤمنين‏}‏ قيل‏:‏ المعنى حسبك الله، وحسبك المهاجرون والأنصار‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى كافيك الله، وكافي من تبعك، قال الشعبي وابن زيد‏.‏ والأول عن الحسن‏.‏ واختاره النحاس وغيره‏.‏ فـ ‏}‏من‏}‏ على القول الأول في موضع رفع، عطفا على اسم الله تعالى‏.‏ على معنى‏:‏ فإن حسبك الله وأتباعك من المؤمنين‏.‏ وعلى الثاني على إضمار‏.‏ ومثله قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يكفينيه الله وأبناء قيلة‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز أن يكون المعنى ‏}‏ومن اتبعك من المؤمنين‏}‏ حسبهم الله، فيضمر الخبر‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏من‏}‏ في موضع نصب، على معنى‏:‏ يكفيك الله ويكفي من اتبعك‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 65 ‏:‏ 66 ‏)‏

‏{‏يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون، الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال‏}‏ أي حثهم وحضهم‏.‏ يقال‏:‏ حارض على الأمر وواظب وأكب بمعنى واحد‏.‏ والحارض‏:‏ الذي قد قارب الهلاك، ومنه قوله عز وجل‏{‏حتى تكون حرضا‏}‏يوسف‏:‏ 85‏]‏ أي تذوب غما، فتقارب الهلاك فتكون من الهالكين‏.‏ ‏}‏إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين‏}‏ لفظ خبر، ضمنه وعد بشرط، لأن معناه إن يصبر منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين‏.‏ وعشرون وثلاثون وأربعون كل واحد منها اسم موضوع على صورة الجمع لهذا العدد‏.‏ ويجري هذا الاسم مجرى فلسطين‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ لم كسر أول عشرين وفتح أول ثلاثين وما بعده إلى الثمانين إلا ستين‏؟‏ فالجواب عند سيبويه أن عشرين من عشرة بمنزلة اثنين من واحد، فكسر أول عشرين كما كسر اثنان‏.‏ والدليل على هذا قولهم‏:‏ ستون وتسعون، كما قيل‏:‏ ستة وتسعة‏.‏ وروى أبو داود عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت ‏}‏إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين‏}‏ فشق ذلك على المسلمين، حين فرض الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة، ثم إنه جاء التخفيف فقال‏{‏ألآن خفف الله عنكم‏}‏ قرأ أبو توبة إلى قوله‏{‏مائة صابرة يغلبوا مائتين‏}‏‏.‏ قال‏:‏ فلما خفف الله تعالى عنهم من العدد نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ قال قوم إن هذا كان يوم بدر ونسخ‏.‏ وهذا خطأ من قائله‏.‏ ولم ينقل قط أن المشركين صافوا المسلمين عليها، ولكن الباري جل وعز فرض ذلك عليهم أولا، وعلق ذلك بأنكم تفقهون ما تقاتلون عليه، وهو الثواب‏.‏ وهم لا يعلمون ما يقاتلون عليه‏.‏

قلت‏:‏ وحديث ابن عباس يدل على أن ذلك فرض‏.‏ ثم لما شق ذلك عليهم حط الفرض إلى ثبوت الواحد للاثنين، فخفف عنهم وكتب عليهم ألا يفر مائة من مائتين، فهو على هذا القول تخفيف لا نسخ‏.‏ وهذا حسن‏.‏ وقد ذكر القاضي ابن الطيب أن الحكم إذا نسخ بعضه أو بعض أوصافه، أو غير عدده فجائز أن يقال إنه نسخ، لأنه حينئذ ليس بالأول، بل هو غيره‏.‏ وذكر في ذلك خلافا‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 67 ‏)‏

‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏أسرى‏}‏ جمع أسير، مثل قتيل وقتلى وجريح وجرحى‏.‏ ويقال في جمع أسير أيضا‏:‏ أسارى ‏(‏بضم الهمزة‏)‏ وأسارى ‏(‏بفتحها‏)‏ وليست بالعالية‏.‏ وكانوا يشدون الأسير بالقد وهو الإسار، فسمي كل أخيذ وإن لم يؤسر أسيرا‏.‏ قال الأعشى‏:‏

وقيدني الشعر في بيته كما قيد الآسرات الحمارا

وقد مضى هذا في سورة ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ وقال أبو عمر بن العلاء‏:‏ الأسرى هم غير الموثقين عند ما يؤخذون، والأسارى هم الموثقون ربطا‏.‏ وحكى أبو حاتم أنه سمع هذا من العرب‏.‏

هذه الآية نزلت يوم بدر، عتابا من الله عز وجل لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏ والمعنى‏:‏ ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم أسرى قبل الإثخان‏.‏ ولهم هذا الإخبار بقوله ‏}‏تريدون عرض الدنيا‏}‏‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب، ولا أراد قط عرض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب، فالتوبيخ والعتاب إنما كان متوجها بسبب من أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الفدية‏.‏ هذا قول أكثر المفسرين، وهو الذي لا يصح غيره‏.‏ وجاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية حين لم ينه عنه حين رآه من العريش وإذ كره سعد بن معاذ وعمر بن الخطاب وعبدالله بن رواحة، ولكنه عليه السلام شغله بغت الأمر ونزول النصر فترك النهي عن الاستبقاء، ولذلك بكى هو وأبو بكر حين نزلت الآيات‏.‏ والله أعلم‏.‏ روى مسلم من حديث عمر بن الخطاب، وقد تقدم أول في ‏}‏آل عمران‏}‏ وهذا تمامه‏.‏ قال أبو زميل‏:‏ قال ابن عباس فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر‏:‏ ‏(‏ما ترون في هؤلاء الأسارى‏)‏‏؟‏ فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما ترى يا ابن الخطاب‏)‏‏؟‏ قلت‏:‏ لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان ‏(‏نسيبا لعمر‏)‏ فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها‏.‏ فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، فقلت‏:‏ يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة‏)‏ ‏(‏شجرة قريبة كانت من نبي الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ وأنزل الله عز وجل ‏}‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض‏}‏ إلى قوله تعالى‏{‏فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا‏}‏الأنفال‏:‏ 69‏]‏ فأحل الله الغنيمة لهم‏.‏

وروى يزيد بن هارون قال‏:‏ أخبرنا يحيى قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبدالله قال‏:‏ لما كان يوم بدر جيء بالأسارى وفيهم العباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما ترون في هؤلاء الأسارى‏)‏ فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله قومك وأهلك، استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم‏.‏ وقال عمر‏:‏ كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدمهم فأضرب أعناقهم‏.‏ وقال عبدالله بن رواحة‏:‏ انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم‏.‏ فقال العباس وهو يسمع‏:‏ قطعت رحمك‏.‏ قال‏:‏ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئا‏.‏ فقال أناس‏:‏ يأخذ بقول أبي بكر رضي الله عنه‏.‏ وقال أناس‏:‏ يأخذ بقول عمر‏.‏ وقال أناس‏:‏ يأخذ بقول عبدالله بن رواحة‏.‏ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة‏.‏‏)‏‏.‏ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال ‏}‏فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم‏}‏إبراهيم‏:‏ 36‏]‏ ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى إذ قال ‏}‏إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏المائدة‏:‏ 118‏]‏‏.‏ ومثلك يا عمر كمثل نوج عليه السلام إذ قال ‏}‏رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا‏}‏نوح‏:‏ 26‏]‏‏.‏ ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ قال ‏}‏ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم‏}‏يونس‏:‏ 88‏]‏ أنتم عالة فلا ينفلتن أحد إلا بفداء أو ضربة عنق‏)‏‏.‏ فقال عبدالله‏:‏ إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام‏.‏ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال‏:‏ فما رأيتني أخوف أن تقع علي الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم‏.‏ فأنزل الله عز وجل‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض‏}‏ إلى آخر الآيتين‏.‏ في رواية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن كاد ليصيبنا في خلاف ابن الخطاب عذاب ولو نزل عذاب ما أفلت إلا عمر‏)‏‏.‏ وروى أبو داود عن عمر قال‏:‏ لما كان يوم بدر وأخذ - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - الفداء، أنزل الله عز وجل ‏}‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض‏}‏ إلى قوله ‏}‏لمسكم فيما أخذتم (1)- من الفداء - " عذاب عظيم‏}‏الأنفال‏:‏68‏]‏‏.‏ ثم أحل الغنائم‏.‏ وذكر القشيري أن سعد بن معاذ قال‏:‏ يا رسول الله، إنه أول وقعة لنا مع المشركين فكان الإثخان أحب إلي‏.‏ والإثخان‏:‏ كثرة القتل، عن مجاهد وغيره‏.‏ أي يبالغ في قتل المشركين‏.‏ تقول العرب‏:‏ أثخن فلان في هذا الأمر أي بالغ‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ حتى يقهر ويقتل‏.‏ وأنشد المفضل‏:‏

تصلي الضحى ما دهرها بتعبد وقد أثخنت فرعون في كفره كفرا

وقيل‏{‏حتى يثخن‏}‏ يتمكن‏.‏ وقيل‏:‏ الإثخان القوة والشدة‏.‏ فأعلم الله سبحانه وتعالى أن قتل الأسرى الذين فودوا ببدر كان أولى من فدائهم‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله عز وجل بعد هذا في الأسارى‏{‏فإما منا بعد وإما فداء‏}‏محمد‏:‏ 4‏]‏ على ما يأتي بيانه في سورة ‏}‏القتال‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنما عوتبوا لأن قضية بدر كانت عظيمة الموقع والتصريف في صناديد قريش وأشرافهم وساداتهم وأموالهم بالقتل والاسترقاق والتملك‏.‏ وذلك كله عظيم الموقع فكان حقهم أن ينتظروا الوحي ولا يستعجلوا، فلما استعجلوا ولم ينتظروا توجه عليهم ما توجه‏.‏ والله أعلم‏.‏

أسند الطبري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس‏:‏ ‏(‏إن شئتم أخذتم فداء الأسارى ويقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم وإن شئتم قتلوا وسلمتم‏)‏‏.‏ فقالوا‏:‏ نأخذ الفداء ويستشهد منا سبعون‏.‏ وذكر عبد بن حميد بسنده أن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بتخيير الناس هكذا‏.‏ وقد مضى في ‏}‏آل عمران‏}‏ القول في هذا‏.‏ وقال عبيدة السلماني‏:‏ طلبوا الخيرتين كلتيهما، فقتل منهم يوم أحد سبعون‏.‏ وينشأ هنا إشكال وهو أن يقال‏:‏ إذا كان التخيير فكيف وقع التوبيخ بقوله ‏}‏لمسكم‏}‏‏.‏ فالجواب - أن التوبيخ وقع أولا لحرصهم على أخذ الفداء، ثم وقع التخيير بعد ذلك‏.‏ ومما يدل على ذلك أن المقداد قال حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط‏:‏ أسيري يا رسول الله‏.‏ وقال مصعب بن عمير الذي أسر أخاه‏:‏ شد عليه يدك، فإن له أما موسرة‏.‏ إلى غير ذلك من قصصهم وحرصهم على أخذ الفداء‏.‏ فلما تحصل الأسارى وسيقوا إلى المدينة وأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل في النضر وعقبة وغيرهما وجعل يرتئي في سائرهم نزل التخيير من الله عز وجل، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه حينئذ‏.‏ فمر عمر على أول رأيه في القتل، ورأى أبو بكر المصلحة في قوه المسلمين بمال الفداء‏.‏ ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر‏.‏ وكلا الرأيين اجتهاد بعد تخيير‏.‏ فلم ينزل بعد على هذا شيء من تعنيت‏.‏ والله أعلم‏.‏

قال ابن وهب‏:‏ قال مالك كان ببدر أسارى مشركون فأنزل الله ‏}‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض‏}‏‏.‏ وكانوا يومئذ مشركين وفادوا ورجعوا، ولو كانوا مسلمين لأقاموا ولم يرجعوا‏.‏ وكان عدة من قتل منهم أربعة وأربعين رجلا، ومثلهم أسروا‏.‏ وكان الشهداء قليلا‏.‏ وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ إن القتلى كانوا سبعين، والأسرى كذلك‏.‏ وكذلك قال ابن عباس وابن المسيب وغيرهم‏.‏ وهو الصحيح كما في صحيح مسلم، فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين‏.‏ وذكر البيهقي قالوا‏:‏ فجيء بالأسارى وعليهم شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم تسعة وأربعون رجلا الذين أحصوا، وهم سبعون في الأصل، مجتمع عليه لا شك فيه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ إنما قال مالك ‏}‏وكانوا مشركين‏}‏ لأن المفسرين رووا أن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني مسلم‏.‏ وفي رواية أن الأسارى قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ آمنا بك‏.‏ وهذا كله ضعفه مالك، واحتج على إبطاله بما ذكر من رجوعهم وزيادة عليه أنهم غزوه في أحد‏.‏ قال أبو عمر بن عبدالبر‏:‏ اختلفوا في وقت إسلام العباس، فقيل‏:‏ أسلم قبل يوم بدر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من لقي العباس فلا يقتله فإنما أخرج كرها‏)‏‏.‏ وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر‏:‏ ‏(‏إن أناسا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البختري فلا يقتله ومن لقي العباس فلا يقتله فإنه إنما أخرج مستكرها‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ وذكر أنه أسلم حين أسر يوم بدر‏.‏ وذكر أنه أسلم عام خيبر، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأخبار المشركين، وكان يحب أن يهاجر فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أمكث بمكة فمقامك بها أنفع لنا‏)‏‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 68 ‏)‏

‏{‏لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏لولا كتاب من الله سبق‏}‏ في أنه لا يعذب قوما حتى يبين لهم ما يتقون‏.‏ واختلف الناس في كتاب الله السابق على أقوال، أصحها ما سبق من إحلال الغنائم، فإنها كانت محرمة على من قبلنا‏.‏ فلما كان يوم بدر، أسرع الناس إلى الغنائم فأنزل الله عز وجل ‏}‏لولا كتاب من الله سبق‏}‏ أي بتحليل الغنائم‏.‏ وروى أبو داود الطيالسي في مسنده‏:‏ حدثنا سلام عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال‏:‏ لما كان يوم بدر تعجل الناس إلى الغنائم فأصابوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الغنيمة لا تحل لأحد سود الرؤوس غيركم‏)‏‏.‏ فكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا غنموا الغنيمة جمعوها ونزلت نار من السماء فأكلتها، فأنزل الله تعالى‏{‏لولا كتاب من الله سبق‏}‏ إلى آخر الآيتين‏.‏ وأخرجه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح، وقال مجاهد والحسن‏.‏ وعنهما أيضا وسعيد بن جبير‏:‏ الكتاب السابق هو مغفرة الله لأهل بدر، ما تقدم أو تأخر من ذنوبهم‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الكتاب السابق هو عفو الله عنهم في هذا الذنب، معينا‏.‏ والعموم أصح، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر في أهل بدر‏:‏ ‏(‏وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏)‏‏.‏ خرجه مسلم‏.‏ وقيل‏:‏ الكتاب السابق هو ألا يعذبهم ومحمد عليه السلام فيهم‏.‏ وقيل‏:‏ الكتاب السابق هو ألا يعذب أحدا بذنب أتاه جاهلا حتى يتقدم إليه‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الكتاب السابق هو مما قضى الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر‏.‏ وذهب الطبري إلى أن هذه المعاني كلها داخلة تحت اللفظ وأنه يعمها، ونكب عن تخصيص معنى دون معنى‏.‏

ابن العربي‏:‏ وفي الآية دليل على أن العبد إذا اقتحم ما يعتقده حراما مما هو في علم الله حلال له لا عقوبة عليه، كالصائم إذا قال‏:‏ هذا يوم نوبي فأفطر الآن‏.‏ أو تقول المرأة‏:‏ هذا يوم حيضتي فأفطر، ففعلا ذلك، وكان النوب والحيض الموجبان للفطر، ففي المشهور من المذهب فيه الكفارة، وبه قال الشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا كفارة عليه، وهي الرواية الأخرى‏.‏ وجه الرواية الأولى أن طرو الإباحة لا يثبت عذرا في عقوبة التحريم عند الهتك، كما لو وطئ امرأة ثم نكحها‏.‏ وجه الرواية الثانية أن حرمة اليوم ساقطة عند الله عز وجل فصادف الهتك محلا لا حرمة له في علم الله، فكان بمنزلة ما لو قصد وطء امرأة قد زفت إليه وهو يعتقدها أنها ليست بزوجته فإذا هي زوجته‏.‏ وهذا أصح‏.‏ والتعليل الأول لا يلزم، لأن علم الله سبحانه وتعالى مع علمنا قد استوى في مسألة التحريم، وفي مسألتنا اختلف فيها علمنا وعلم الله فكان المعول على علم الله‏.‏ كما قال‏{‏لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم‏}‏‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 69 ‏)‏

‏{‏فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم‏}‏

يقتضي ظاهره أن تكون الغنيمة كلها للغانمين، وأن يكونوا مشتركين فيها على السواء، إلا أن قوله تعالى‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه‏}‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ بين وجوب إخراج الخمس منه وصرفه إلى الوجوه المذكورة‏.‏ وقد تقدم القول في هذا مستوفى‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 70 ‏:‏ 71 ‏)‏

‏{‏يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم، وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى‏}‏ قيل‏:‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏ وقيل‏:‏ له وحده‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ الأسرى في هذه الآية عباس وأصحابه‏.‏ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول الله، لننصحن لك على قومك، فنزلت هذه الآية‏.‏ وقد تقدم بطلان هذا من قول مالك‏.‏ وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة‏.‏ وعن ابن إسحاق‏:‏ بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أسراهم، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا‏.‏ وقال العباس‏:‏ يا رسول الله، إني قد كنت مسلما‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الله أعلم بإسلامك فإن يكن كما تقول فالله يجزيك بذلك فأما ظاهر أمرك فكان علينا فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو أخا بني الحارث بن فهر‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ما ذاك عندي يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل فقلت لها إن أصبت في سفري هذا فهذا المال لبني الفضل وعبدالله وقثم‏)‏ ‏؟‏ فقال‏:‏ يا رسول الله، إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا لشيء ما علمه غيري وغير أم الفضل، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا ذاك شيء أعطانا الله منك‏)‏‏.‏ ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، وأنزل الله فيه‏{‏يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى‏}‏ الآية‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وكان أكثر الأسارى فداء العباس بن عبدالمطلب، لأنه كان رجلا موسرا، فافتدى نفسه بمائة أوقية من ذهب‏.‏ وفي البخاري‏:‏ وقال موسى بن عقبة قال ابن شهاب‏:‏ حدثني أنس بن مالك أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول الله، ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا والله لا تذرون درهما‏)‏‏.‏ وذكر النقاش وغيره أن فداء كل واحد من الأسارى كان أربعين أوقية، إلا العباس فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أضعفوا الفداء على العباس‏)‏ وكلفه أن يفدي ابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث فأدى عنهما ثمانين أوقية، وعن نفسه ثمانين أوقية وأخذ منه عشرون أوقية وقت الحرب‏.‏ وذلك أنه كان أحد العشرة الذين ضمنوا الإطعام لأهل بدر، فبلغت النوبة إليه يوم بدر فاقتتلوا قبل أن يطعم، وبقيت العشرون معه فأخذت منه وقت الحرب، فأخذ منه يومئذ مائة أوقية وثمانون أوقية‏.‏ فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد تركتني ما حييت أسأل قريشا بكفي‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أين الذهب الذي تركته عند امرأتك أم الفضل‏)‏‏؟‏ فقال العباس‏:‏ أي ذهب‏؟‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنك قلت لها لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولولدك‏)‏ فقال‏:‏ يا ابن أخي، من أخبرك بهذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الله أخبرني‏)‏‏.‏ قال العباس‏:‏ أشهد أنك صادق، وما علمت أنك رسول الله قط إلا اليوم، وقد علمت أنه لم يطلعك عليه إلا عالم السرائر، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، وكفرت بما سواه‏.‏ وأمر ابني أخويه فأسلما، ففيهما نزلت ‏}‏يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى‏}‏‏.‏ وكان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة، وكان رجلا قصيرا، وكان العباس ضخما طويلا، فلما جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏(‏لقد أعانك عليه ملك‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن يعلم الله في قلوبكم خيرا‏}‏ أي إسلاما‏.‏ ‏}‏يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم‏}‏ أي من الفدية‏.‏ قيل في الدنيا‏.‏ وقيل في الآخرة‏.‏ وفي صحيح مسلم أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مال من البحرين قال له العباس‏:‏ إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا‏.‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خذ‏)‏ فبسط ثوبه وأخذ ما استطاع أن يحمله‏.‏ مختصر‏.‏ في غير الصحيح‏:‏ فقال له العباس هذا خير مما أخذ مني، وأنا بعد أرجو أن يغفر الله لي‏.‏ قال العباس‏:‏ وأعطاني زمزم، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة‏.‏ وأسند الطبري إلى العباس أنه قال‏:‏ في نزلت حين أعلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي، وسألته أن يحاسبني بالعشرين أوقية التي أخذت مني قبل المفاداة فأبى‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏ذلك فيء‏)‏ فأبدلني الله من ذلك عشرين عبدا كلهم تاجر بمالي‏.‏ وفي مصنف أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص‏.‏ قالت‏:‏ فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال‏:‏ ‏(‏إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها‏)‏‏؟‏ فقالوا‏:‏ نعم‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليه أو وعده أن يخلي سبيل زينب إليه‏.‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار فقال‏:‏ ‏(‏كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها‏)‏‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وذلك بعد بدر بشهر‏.‏ قال عبدالله بن أبي بكر‏:‏ حدثت عن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت‏:‏ لما قدم أبو العاص مكة قال لي‏:‏ تجهزي، فالحقي بأبيك‏.‏ قالت‏:‏ فخرجت أتجهز فلقيتني هند بنت عتبة فقالت‏:‏ يا بنت محمد، ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك‏؟‏ فقلت لها‏:‏ ما أردت ذلك‏.‏ فقالت، أي بنت عم، لا تفعلي، إني امرأة موسرة وعندي سلع من حاجتك، فإن أردت سلعة بعتكها، أو قرضا من نفقة أقرضتك، فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال‏.‏ قالت‏:‏ فوالله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل، فخفتها فكتمتها وقلت‏:‏ ما أريد ذلك‏.‏ فلما فرغت زينب من جهازها ارتحلت وخرج بها حموها يقود بها نهارا كنانة بن الربيع‏.‏ وتسامع بذلك أهل مكة، وخرج في طلبها هبار بن الأسود ونافع بن عبدالقيس الفهري، وكان أول من مبق إليها هبار فروعها بالرمح وهي في هودجها‏.‏ وبرك كنانة ونثر نبله، ثم أخذ قوسه وقال‏:‏ والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما‏.‏ وأقبل أبو سفيان في أشراف قريش فقال‏:‏ يا هذا، أمسك عنا نبلك حتى نكلمك، فوقف عليه أبو سفيان وقال‏:‏ إنك لم تصنع شيئا، خرجت بالمرأة على رؤوس الناس، وقد عرفت مصيبتنا التي أصابتنا ببدر فتظن العرب وتتحدث أن هذا وهن منا وضعف خروجك إليه بابنته على رؤوس الناس من بين أظهرنا‏.‏ أرجع بالمرأة فأقم بها أياما، ثم سلها سلا رفيقا في الليل فألحقها بأبيها، فلعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، وما لنا في ذلك الآن من ثورة فيما أصاب منا، ففعل فلما مر به يومان أو ثلاثة سلها، فانطلقت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أنها قد كانت ألقت - للروعة التي أصابتها حين روعها هبار بن أم درهم - ما في بطنها‏.‏

قال ابن العربي‏{‏لما أسر من أسر من المشركين تكلم قوم منهم بالإسلام ولم يمضوا فيه عزيمة ولا اعترفوا به اعترافا جازما‏.‏ ويشبه أنهم أرادوا أن يقربوا من المسلمين ولا يبعدوا من المشركين‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ إن تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه ولم يمض فيه عزيمة لم يكن مؤمنا‏.‏ وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن كان كافرا، إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر على دفعها فإن الله قد عفا عنها وأسقطها‏.‏ وقد بين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم الحقيقة فقال‏{‏إن يريدوا خيانتك‏}‏ أي إن كان هذا القول منهم خيانة ومكرا ‏}‏فقد خانوا الله من قبل‏}‏ بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك‏.‏ وإن كان هذا القول منهم خيرا ويعلمه الله فيقبل منهم ذلك ويعوضهم خيرا مما خرج عنهم ويغفر لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم‏}‏‏.‏ وجمع خيانة خيائن، وكان يجب أن يقال‏:‏ خوائن لأنه من ذوات الواو، إلا أنهم فرقوا بينه وبين جمع خائنة‏.‏ ويقال‏:‏ خائن وخوان وخونة وخانة‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 72 ‏)‏

‏{‏إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين آمنوا‏}‏ ختم السورة بذكر الموالاة ليعلم كل فريق وليه الذي يستعين به‏.‏ وقد تقدم معنى الهجرة والجهاد لغة ومعنى‏.‏ ‏}‏والذين آووا ونصروا‏}‏ معطوف عليه‏.‏ وهم الأنصار الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم، وانضوى إليهم النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون‏.‏ ‏}‏أولئك‏}‏ رفع بالابتداء‏.‏ ‏}‏بعضهم‏}‏ ابتداء ثان ‏}‏أولياء بعض‏}‏ خبره، والجميع خبر ‏}‏إن‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏{‏أولياء بعض‏}‏ في الميراث، فكانوا يتوارثون بالهجرة، وكان لا يرث من آمن ولم يهاجر من هاجر فنسخ الله ذلك بقول‏{‏وأولوا الأرحام‏}‏ الآية‏.‏ أخرجه أبو داود‏.‏ وصار الميراث لذوي الأرحام من المؤمنين‏.‏ ولا يتوارث أهل ملتين شيئا‏.‏ ثم جاء قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ألحقوا الفرائض بأهلها‏)‏ على ما تقدم بيانه في آية المواريث‏.‏ وقيل‏:‏ ليس هنا نسخ، وإنما معناه في النصرة والمعونة، كما تقدم في ‏}‏النساء‏}‏‏.‏ ‏}‏والذين آمنوا‏}‏ ابتداء والخبر ‏}‏ما لكم من ولايتهم من شيء‏}‏ وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة ‏}‏من ولايتهم‏}‏ بكسر الواو‏.‏ وقيل هي لغة‏.‏ وقيل‏:‏ هي من وليت الشيء، يقال‏:‏ ولي بين الولاية‏.‏ ووال بين الولاية‏.‏ والفتح في هذا أبين وأحسن، لأنه بمعنى النصرة والنسب‏.‏ وقد تطلق الولاية والولاية بمعنى الإمارة‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن استنصروكم في الدين‏}‏ يريد إن دعوا هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا من أرض الحرب عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم، فذلك فرض عليكم فلا تخذلوهم‏.‏ إلا أن يستنصروكم على قوم كفار بينكم وبينهم ميثاق فلا تنصروهم عليه، ولا تنقضوا العهد حتى تتم مدته‏.‏ ابن العربي‏:‏ إلا أن يكونوا أسراء مستضعفين فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة، حتى لا تبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم‏.‏ كذلك قال مالك وجميع العلماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون، على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو وبأيديهم خزائن الأموال، وفضول الأحوال والقدرة والعدد والقوة والجلد‏.‏ الزجاج‏:‏ ويجوز ‏}‏فعليكم النصر‏}‏ بالنصب على الإغراء‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 73 ‏)‏

‏{‏والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير‏}‏

قوله تعالى‏{‏والذين كفروا بعضهم أولياء بعض‏}‏ قطع الله الولاية بين الكفار والمؤمنين، فجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والكفار بعضهم أولياء بعض، يتناصرون بدينهم ويتعاملون باعتقادهم‏.‏ قال علماؤنا في الكافرة يكون لها الأخ المسلم‏:‏ لا يزوجها، إذ لا ولاية بينهما، ويزوجها أهل ملتها‏.‏ فكما لا يزوج المسلمة إلا مسلم فكذلك الكافرة لا يزوجها إلا كافر قريب لها، أو أسقف، ولو من مسلم، إلا أن تكون معتقة، فإن عقد على غير المعتقة فسخ إن كان لمسلم، ولا يعرض للنصراني‏.‏ وقال أصبغ‏:‏ لا يفسخ، عقد المسلم أولى وأفضل‏.‏

قوله تعالى‏{‏إلا تفعلوه‏}‏ الضمير عائد على الموارثة والتزامها‏.‏ المعنى‏:‏ إلا تتركوهم يتوارثون كما كانوا يتوارثون، قاله ابن زيد‏.‏ وقيل‏:‏ هي عائدة على التناصر والمؤازرة والمعاونة واتصال الأيدي‏.‏ ابن جريج وغيره‏:‏ وهذا إن لم يفعل تقع الفتنة عنه عن قريب، فهو أكد من الأول‏.‏ وذكر الترمذي عن عبدالله بن مسلم بن هرمز عن محمد وسعد ابني عبيد عن أبي حاتم المزني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، وإن كان فيه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه‏)‏ ثلاث مرات‏.‏ قال‏:‏ حديث غريب‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على حفظ العهد والميثاق الذي تضمنه قوله‏{‏إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏‏.‏ وهذا وإن لم يفعل فهو الفتنة نفسها‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على النصر للمسلمين في الدين‏.‏ وهو معنى القول الثاني‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ جعل الله المهاجرين والأنصار أهل ولايته في الدين دون من سواهم، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض‏.‏ ثم قال‏{‏إلا تفعلوه‏}‏ وهو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمنين‏.‏ ‏}‏تكن فتنة‏}‏ أي محنة بالحرب، وما أنجر معها من الغارات والجلاء والأسر‏.‏ والفساد الكبير‏:‏ ظهور الشرك‏.‏ قال الكسائي‏:‏ ويجوز النصب في قوله‏{‏تكن فتنة‏}‏ على معنى تكن فعلتكم فتنة وفسادا كبيرا‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 74 ‏:‏ 75 ‏)‏

‏{‏والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم، والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏حقا‏}‏ مصدر، أي حققوا إيمانهم بالهجرة والنصرة‏.‏ وحقق الله إيمانهم بالبشارة في قوله‏{‏لهم مغفرة ورزق كريم‏}‏ أي ثواب عظيم في الجنة‏.‏

قوله تعالى‏{‏والذين آمنوا من بعد وهاجروا‏}‏ يريد من بعد الحديبية وبيعة الرضوان‏.‏ وذلك أن الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة الأولى‏.‏ والهجرة الثانية هي التي وقع فيها الصالح، ووضعت الحرب أوزارها نحو عامين ثم كان فتح مكة‏.‏ ولهذا قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا هجرة بعد الفتح‏)‏‏.‏ فبين أن من آمن وهاجر من بعد يلتحق بهم‏.‏ ومعنى ‏}‏منكم‏}‏ أي مثلكم في النصر والموالاة‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأولوا الأرحام‏}‏ ابتداء‏.‏ والواحد ذو، والرحم مؤنثة، والجمع أرحام‏.‏ والمراد بها ههنا العصبات دون المولود بالرحم‏.‏ ومما يبين أن المراد بالرحم العصبات قول العرب‏:‏ وصلتك رحم‏.‏ لا يريدون قرابة الأم‏.‏ قالت قتيلة بنت الحارث - أخت النضر بن الحارث - كذا قال ابن هشام‏.‏ قال السهيلي‏:‏ الصحيح أنها بنت النضر لا أخته، كذا وقع في كتاب الدلائل - ترثي أباها حين قتله النبي صلى الله عليه وسلم صبرا - بالصفراء‏:‏

يا راكبا إن الأثيل مظنة من صبح خامسة وأنت موفق

أبلغ بها ميتا بأن تحية ما إن تزال بها النجائب تخفق

مني إليك وعبرة مسفوحة جادت بواكفها وأخرى تخنق

هل يسمعني النضر إن ناديته أم كيف يسمع ميت لا ينطق

أمحمد يا خير ضنء كريمة في قومها والفحل فحل معرق

ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيط المحنق

لو كنت قابل فدية لفديته بأعز ما يفدى به ما ينفق

فالنضر أقرب من أسرت قرابة وأحقهم إن كان عتق يعتق

ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تشقق

صبرا يقاد إلى المنية متعبا رسف المقيد وهو عان موثق

واختلف السلف ومن بعدهم في توريث ذوي الأرحام - وهو من لا سهم له في الكتاب - من قرابة الميت وليس بعصبة، كأولاد البنات، وأولاد الأخوات وبنات الأخ، والعمة والخالة، والعم أخ الأب للأم، والجد أبي الأم، والجدة أم الأم، ومن أدلى بهم‏.‏ فقال قوم‏:‏ لا يرث من لا فرض له من ذوي الأرحام‏.‏ وروي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عمر، ورواية عن علي، وهو قول أهل المدينة، وروي عن مكحول والأوزاعي، وبه قال الشافعي رضي الله عنه‏.‏ وقال بتوريثهم‏:‏ عمر بن الخطاب وابن مسعود ومعاذ وأبو الدرداء وعائشة وعلي في رواية عنه، وهو قول الكوفيين وأحمد وإسحاق‏.‏ واحتجوا بالآية، وقالوا‏:‏ وقد اجتمع في ذوي الأرحام سببان القرابة والإسلام، فهم أولى ممن له سبب واحد وهو الإسلام‏.‏ أجاب الأولون فقالوا‏:‏ هذه آية مجملة جامعة، والظاهر بكل رحم قرب أو بعد، وآيات المواريث مفسرة والمفسر قاض على المجمل ومبين‏.‏ قالوا‏:‏ وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الولاء سببا ثابتا، أقام المولى فيه مقام العصبة فقال‏:‏ ‏(‏الولاء لمن أعتق‏)‏‏.‏ ونهى عن بيع الولاء وعن هبته‏.‏ احتج الآخرون بما روى أبو داود والدارقطني عن المقدام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من ترك كلا فإلي - وربما قال فإلى الله وإلى رسوله - ومن ترك مالا فلورثته فأنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه والخال وأرث من لا وارث له يعقل عنه‏.‏ ويرثه‏)‏‏.‏ وروى الدارقطني عن طاوس قال قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ‏(‏الله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له‏)‏‏.‏ موقوف‏.‏ وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الخال وارث‏)‏‏.‏ وروي عن أبي هريرة قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ميراث العمة والخالة فقال ‏(‏لا أدري حتى يأتيني جبريل‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏أين السائل عن ميراث العمة والخالة‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ فأتى الرجل فقال‏:‏ ‏(‏سارني جبريل أنه لا شيء لهما‏)‏‏.‏ قال الدارقطني‏:‏ لم يسنده غير مسعدة عن محمد بن عمرو وهو ضعيف، والصواب مرسل‏.‏ وروي عن الشعبي قال قال زياد بن أبي سفيان لجليسه‏:‏ هل تدري كيف قضى عمر في العمة والخالة‏؟‏ قال لا‏.‏ قال‏:‏ إني لأعلم خلق الله كيف قضى فيهما عمر، جعل الخالة بمنزلة الأم، والعمة بمنزلة الأب